السبيعي والصرافة

رائد صيرفي..

أدرك السبيعي -رحمه الله- بخبراته كرجل أعمال حصيف، وصاحب دربة ورؤية تجارية صائبة، أن الزمن لا يعود للوراء، وأن ما مضى فات؛ وأن النجاح، حليف المجد، وفي الوقت نفسه، هو فعل المستقبل؛ وكذا لن يكون الغد أفضل من الأمس إلا بإرادة الذين يجعلون التطوير والتغيير خيارًا فعَّالاً لحياتهم؛ لأن رجل الأعمال الناجح، ينافس على حصته من الفرص الاستثمارية المستقبلية لا على حصته من السوق..؛ فمع استتباب الأمن في الحجاز وانضوائه تحت راية الدولة السعودية؛ ازدهرت الأعمال التجارية في مكة المكرمة وانتعشت تجارة الصرافة، ودخل محمد بن إبراهيم السبيعي مجال الصرافة من باب البيع والشراء في الدكان بمكة، فكان يشتري العملات الأجنبية من الحجاج ويبيعها للصرافين في مكة، إذ كان يشتري العملات في مقابل الذهب.

ويذكر محمد البراهيم السبيعي أن العملة الهندية فئة الألف روبية كانت أكثر العملات رواجًا بين الحجاج حينها، إضافة إلى الدينار العراقي والعملات الإيرانية والتركية وغيرها.

وبعد أن منَّ اللهُ على محمد بن إبراهيم السبيعي في مجال التجارة، وعقب أن تراكمت خبراته المستمدة من عمه ناصر وتجار مكة؛ قرَّر تأسيس كيان مؤسسي استثماري في مجال الصرافة، وكان ذلك عام (1357هـ/1938م)؛ فأسس محمد السبيعي -رحمه الله- مع أخيه عبدالله (شركة محمد وعبدالله البراهيم السبيعي للصرافة والتجارة) وتولَّى محمد السبيعي رئاسة مجلس إدارة الشركة فيما تولى أخوه عبدالله منصب نائب الرئيس؛ فأدرك بذكائه وبُعد نظره أن تجارة العملات، ستزدهر في تلك الفترة بعد ضم الحجاز تحت راية الدولة السعودية، وقلَّت أطماع الأشراف والعثمانيين فيه، وقد لمح بذكائه التجاري فرصةً استثماريةً جديدة تلوح في الأفق، وتوقَّع ولادة قطاع الصرافة، وتنبأ بظهور هذا القطاع الجديد الذي لم يفطن له إلا القليل من رجال الأعمال حينها، وخصوصًا أن مكة المكرمة – زادها الله تشريفًا – تشهد وفود آلاف الحجاج والمعتمرين طوال العام من جنسيات مختلفة.

قال محمد بن إبراهيم السبيعي -رحمه الله- في هذا الصدد:

«من طرائف وغرائب الأمور في ذلك الوقت أن السيارة كانت تتعطَّل في الطريق وهي محمَّلة ذهبًا أو فضة ويتركها السائق برفقة المساعد ويذهب إلى الرياض أو جدة للبحث عن قطعة غيار لإصلاحها ويعود ليجدها كما كانت!!».

وبعد تطور وسائل الاتصال استخدم محمد السبيعي وبقية التجار البرقيات في تسيير وتسريع التعامل التجاري والمصرفي، فكانوا يستخدمون بعض الكلمات الرمزية للدلالة على العملات.

القهوة… غنم!!

ذكر محمد البراهيم السبيعي- رحمه الله- بعض الشفرات السرية للصرَّافين التي كانوا يستخدمونها مع وكلائهم في البرقيات المرسلة لهم حتى لا يعرفها أحد من التجار والعاملين في مهنة الصرافة بمكة المكرمة عن طريق كشف أقربائهم أو أصدقائهم لها في مكتب البرقيات ليستدلوا على ارتفاع أو انخفاض أسعار العملات من خلال مراسلاتهم؛ فينافسونهم. ويقول محمد بن إبراهيم السبيعي:

«كنا نستخدم عبارات وهمية نحن متفقون على مسمياتها ومعانيها؛ فكنا نسمي الذهب (رشادًا)، والفضة (صبرًا) والهيل (قرنفلاً)، والقهوة (غنمًا) والقماش (رزًا) فيقول الوكيل لنا أو العكس: اشتر (رشادًا أو صبرًا) فنعرف أنه يقصد ذهبًا أو فضةً».

ويتبين من ذلك أنهم في ذلك الوقت كانوا يتواصلون مع وكلائهم من خلال البرقيات وهي الأسرع؛ لاستغراق مكالمات الهاتف وقتاً طويلاً، إذ يجب عليك انتظار ثلاثة أيام حتى تجري مكالمة هاتفية، وكانوا يرسلون لهم خطابات تبيِّن تسجيل كذا وصرف كذا والرصيد كذا، وكان يجري التحاسب معهم بما يُسمى (الخرطوش) وهو مصطلح يعني اليومية.

أسعار الصرف:

وعن آلية تحديد أسعار العملات في فترة الخمسينات الميلادية ومع عدم توافر وسائل اتصال ملائمة وكيفية تحديدها ووقت تغييرها، قال محمد بن إبراهيم السبيعي -رحمه الله :

«إن المتحكم الرئيس في الموضوع هو مبدأ العرض والطلب، فتجري أمور الصرافة مقابل أجر، إذ كلما توافرت العملة؛ رخص ثمنها، وكلما ندرت من السوق؛ غلا ثمنها، إضافة إلى ما يرسله لنا وكلاؤنا في الرياض أو الكويت أو البحرين من معلومات يفيدوننا بأن سعر العملة الفلانية ارتفع أو انخفض ونستمر عليه حتى يأتينا خبر جديد عن تغيُّر سعر العملة أو أن يتأثر وضعها ووجودها في السوق المحلية لدينا في منطقتنا».

وأضاف محمد بن إبراهيم السبيعي:

«تتغيَّر الأسعار خلال شهر أو شهرين وأحيانًا ثلاثة أشهر، ويتحكم فيها أيضاً التخمين وبالدرجة الأولى المغامرة، إذ كنّا نكسب مرة ونخسر عدة مرات، وحقيقة القول أننا واجهنا أكثر من موقف تعرضنا فيه لصعوبات وأزمات ولكن كانت قناعتنا و إيماننا وثقتنا بالله كبيرة وعظيمة وهو القائل سبحانه:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2)».

ومع ظهور بشائر الذهب الأسود – النفط – وتدفقه بكثرة؛ عمّ الخير وانتشر الرخاء واستُخدِمَت الطائرات، وكانت الطائرة المعروفة في ذلك الوقت هي طائرة الداكوتا، وقد ساعدت على انتعاش التجارة، إضافة إلى ازدياد التبادل التجاري عقب الحرب العالمية الثانية؛ لذا نشطت حركة تحويل المبالغ النقدية وشراء الذهب والمعادن الثمينة ودخل الدولار السوق العلنية مما زاده حرية.

ومن المواقف التي رواها محمد السبيعي -رحمه الله- أنه عندما تنقل العملات، والذهب بالطائرة ليلاً كانوا يأخذون صُرَرَ الذهب والنقود يدفنونها في الرمل حول المطار وينامون عليها لإرسالها في الصباح الباكر مع أحد الركاب..!

وكان محمد السبيعي وأخوه عبدالله – هما – الوحيدين من أهل نجد اللذين يعملان في مهنة الصرافة في مكة المكرمة ذلك الوقت، بينما كان بقية الصرافين من أهل الحجاز ومنهم: عبد العزيز الكعكي؛ وأحمد صيرفي؛ وسالم بن محفوظ؛ وحمزة صيرفي؛ وهاشم صلاح غمري.

وفي الرياض كان من رواد العمل المصرفي: صالح الراجحي؛ وعبدالعزيز المقيرن؛ وعبدالعزيز وسليمان الحقباني؛ وعبدالعزيز الشقري؛ وفي الكويت كان من رواد العمل المصرفي: عبداللطيف آل  شايع؛  وعبدالرحمن الزامل؛  وصالح العبدلي. وفي الأحساء: محمد وعبدالرحمن المطلق، ولم يكن في المملكة في ذلك الوقت بنوك محلية أو عالمية  سوى البنك السعودي الهولندي في جدة، وكان يُعرف باسم الشركة التجارية الهولندية، وكان يهدف إلى خدمة الحجيج القادمين من جزر الهند الشرقية  (إندونيسيا حاليًا) والتي كانت خاضعة للحكم الهولندي آنذاك، وكان عبارة عن  شركة مستقلة تقوم بأعمال البنك.

اكتسب محمد بن إبراهيم السبيعي – رحمه الله – ثقة العملاء بصدقه وأمانته؛ فكانت المعاملات المالية تعتمد على عنصر الثقة، فالعمل المصرفي في المملكة خلال حقبة الستينات الهجرية كان قائمًا على مبدأ الثقة بين العملاء ومكتب الصرافة والتحويلات؛ فكان التوثيق بالوسائل القديمة من خلال الأختام والمستندات، ولم يكن بالدقة الحالية والرقابة الصارمة التي تعتمدها حاليًا مؤسسة النقد العربي السعودي، فكان عمله غاية في الضبط والدقة والأمانة كما أمر الله سبحانه وتعالى بذلك.

واستمر النجاح حليفًا لمحمد السبيعي وأخيه عبدالله في حياتهما العائلية والعملية، تظللهما المحبة والأخوة الصادقة والإيثار، وترفرف عليهما رايات التوفيق ويكللهما الكسب المادي والمعنوي؛ فتعاقدا مع وزارة المالية أيضًا ليؤمِّنا لها تحويل رواتب وزارة المعارف إلى جميع أنحاء المملكة، وبفضل الله توسعت تجارتهما وعملا بالصرافة إلى جانب التجارة، وتعاملا مع تجار من الكويت ولبنان موسعين بذلك نشاطهما إقليميًّا، وقد كانت لمحمد السبيعي وأخيه عبدالله مكانة مرموقة خاصة بين تجار مكة، سهَّلت  سبل النجاح لهما في التجارة.

توسيع النشاط التجاري:

مع نماء تجارة محمد بن إبراهيم السبيعي وأخيه عبدالله في مكة المكرمة، ومع توسع أعمالهما في مجال الصرافة؛ أصبح من الضرورة افتتاح فروع في مدينتي جدة والرياض تُسهل وتخدم إدارة أعمالهما ونشاطهما الأساسي في مكة المكرمة. ونظرًا لأهمية هذه المرحلة في حياة محمد السبيعي؛ فإنه يتذكَّر تفاصيلها وكأنها وقعت بالأمس، إذ قال – رحمه الله:

«لم يكن يخطر ببالي يومًا أن أترك مكة ومجاورة بيت الله الشريف، ولكن كنا نتنقل يوميًا بين مكة وجدة وأحيانًا مرتين في اليوم حسب متطلبات العمل لمدة عشر سنوات، وكانت المواصلات صعبة نظرًا لوعورة الطريق..».

ويستطرد، قائلا:

«ولا أنسى معروف الأخ عبد العزيز المزيني، وهو من تجار الكويت، وكنا نحن وكلاءه في المملكة حين نصحني أن أفتح دكانًا في جدة وأستريح مع أخي عبدالله من عناء الطريق».

انتقل محمد السبيعي على أثرها مع أخيه عبدالله والعائلة إلى جدة عام (1358هـ/1939م) واستأجرا مكتبًا في عمارة البلدية في شارع قابل، حيث توسعت أعمالهما، وافتتحا فروعًا في كل من الرياض والمدينة المنورة والخُبَر. وعن ذكريات افتتاح فرع الرياض، يقول محمد بن إبراهيم السبيعي:

«لم يكن التفكير في الانتقال إلى الرياض أمراً سهلاً عليّ، ففراق والدتي وأخي عبدالله كان صعباً على نفسي وكنت أرى العالم من خلالهما، ولكن ابن آدم وفق ما كتب الله له يسيرُ، ولا يدري أين الخير الذي كُتِبَ له.

ونظرًا لنقل الوزارات إلى الرياض في عهد الملك سعود -رحمه الله – فكّرت في التوسع وفتحت محلاً بالرياض، حيث كان لي أعمال مع بعض الأمراء والوزراء، وعندما ذهبت إلى الرياض عام (1376هـ/1957م) قابلت الأخ عمر بن حمران – رحمه الله – في أحد جوامع الرياض وكنت أعرفه من قبل، فقد كان يعمل لدى الكعكي في مكة ثم انتقل إلى الرياض وصار وكيلاً للكعكي، وعرض عليَّ أن نأخذ دكانًا في شارع الملك فيصل في الرياض ونكون شركاء فيه، وتم ذلك بحمد الله، وكان مشهورًا بالصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ذلك بحمد الله فاتحة خير لعملنا في الرياض, وبقدر ما تشدني الرياض؛ يشدني أهلها، حيث استفدت منهم منذ بدأت العمل التجاري فهي مدينة عظيمة وأهلها يتميزون بالطيبة وفيها مجال خصب للعمل والاجتهاد. أما بالنسبة لأخي عبدالله فقد بقي في جدة لمتابعة أعمالنا  التي سارت – بفضل الله – على أحسن حال وتطورت إلى الأفضل».

عمارة البطحاء

ذكر محمد بن إبراهيم السبيعي – رحمه الله- أن أول عمارة بُنيت على الطراز الحديث وبارتفاع (30) طابقًا في مدينة الرياض كانت له ولأخيه عبدالله في البطحاء، وقد استأجرها البنك السعودي الأمريكي لعدة سنوات، ويحكي السبيعي عنها بقوله:

«بتوفيق من الله كانت هذه العمارة مباركة ووجه خير علينا، وكان سعر متر الأرض التي بُنيت عليها عمارة البطحاء أربعة ريالات. ويضيف: بعد ذلك توسعت أعمالنا المصرفية وأصبحنا عملاء وممثلين رئيسيين لكثير من الشركات والمصارف العالمية».

لقد كانت رحلة محمد السبيعي- رحمه الله- مع العطاء والكسب والتدبير، جامعةً لأكثر من قصة، تتوزع على حكايات صغيرة، كل منها يمكن أن تكون ذات قيمة أو دلالة أو إشارة إلى معنى في الكفاح والنجاح والنبل؛ كونها تجسّد صورة واضحة للأمس القريب من ناحية، وعلامة مهمة على المواجهة مع ذلك الزمن الغلاب مع كل تواريخ التحدي والصبر من ناحية أخرى، وتعبِّر، في الوقت نفسه، عن ذلك الجيل الذي عرف معنى الشدِّة والرخاء وعهد الحياة بوجوه الضرَّاء والسرَّاء؛ ليعكس بذلك للأجيال اللاحقة تجربة متكاملة لمن أراد أن يستفيد من هذه التجارة الثرَّة.

وتنوع نشاط شركة محمد وعبدالله البراهيم السبيعي التجارية وتوسعت بازدهار، حتى بات اسم محمد بن إبراهيم السبيعي، رقمًا صعبًا في عالم المال والأعمال؛ فخلال ثمانين عامًا انتقل من متجر صغير إلى شركات رائدة عملاقة.. في الخدمات المصرفية والاستثمار والتطوير العقاري والبتروكيميائى والتجاري وأيضًا الخيري..؛ وتجارة المواد الغذائية والأثاث المكتبي والمنزلي والأقمشة ومواد البناء، وكذلك دخلت في مجال الصناعة والأسهم، وكانت الشركة – بفضل الله – في الأوساط التجارية مثالًا للأمانة والصدق، وتعد نموذجًا يُحتذى في العلاقة الإيجابية بين ملاَّك الشركات العائلية في المملكة والخليج العربي.

في مثل هذه الحياة الطويلة من الكفاح والتقدم والازدهار في مجالات التجارة والاستثمار؛ يكمن شرط النجاح في سرُّ الصبر، لمن بدأ من الصفر..! وإن نجاحًا عظيمًا كهذا نجاح الذي خلَّده سفر حياة محمد السبيعي لا يكتمل قطعًا في نفس صاحبه إلا بعد اختبار نفسه في الحياة؛ ليبقى سرُّ الصلاح، في صلاح السِّر ولا يصل ذلك النجاح إلى ذُرى القمة إلا بعد أن يوازي ذلك الذُرى بمقدار ما راضته نفسه من عناء وتواضع وإخلاص ودأب وطموح وغير ذلك من أدوات الصبر الجميل..!