ظفر محمد البراهيم السبيعي – رحمه الله – عبر مشوار حياته الزاخر بنخبة من الأصدقاء والمعارف والشركاء الذين كان يكنّ لهم كامل الودّ والتقدير ويذكّرهم أمام الناس بالخير والفضل، كما مرت به معهم مئات المواقف والتجارب والأحداث التي خرج منها متوشحًا بنجاح أو متدثرًا بحكمة.
إن توافر مثل هذه النماذج الحيَّة للنجاح في حياته وسيرته العملية؛ تفتح له طرائق الإلهام ودواعي التواصل مع دورة الحياة التي تعطي مفاتيح النجاح لمن أدرك أسرارها وصبر على تحدياتها..
واخترنا في هذا القسم «القصير» غيضًا من فيض هذه المواقف؛ ليتعرّف القارئ على جوانب من سيرته وإنسانيته وعلاقاته وطريقة تفكيره وأسلوب اتخاذه القرارات.
عبدالله السبيعي.. أخ قلَّ نظيره:
عُني محمد بن إبراهيم السبيعي – رحمه الله – بأخيه عبدالله، غاية العناية وحفّظه القرآن وألحقه بالمدرسة، وساعده في تحصيل ودراسة القرآن في المسيجيد. وعندما انتقل إلى مكة المكرمة ألحقه بمدرسة في المعلاة، حيث تتلمذ على يد الأستاذ عبد الكريم الجهيمان، ثم درس عند الخطَّاط الحلواني بباب الزيادة، وكان أخوه عبد الله هو عضده وساعده. ومن يعرفهما يحمد لهما هذه اللحمة التي اتسمت بها روح الشقيقين. وقال مبيِّنًا علاقته بأخيه عبد الله:
«أنا وهو كما قال معاوية ابن أبي سفيان: «لو كان بيني وبين الرعية شعرة لم تنقطع، إذا جروها أرخيتها وذا أرخوها شددتها فهو مكمل لي وأنا مكمل له».
وفي خضم انهماك محمد البراهيم السبيعي – رحمه الله – في التجارة لم ينس أخاه عبد الله؛ فقد اهتم به وبتعليمه، كما رغب السبيعي في أن يعمل شقيقه عبد الله معه في المحل، دون التعرض لحصة شريكه ابن غنيم، فعملا معًا وكانت بداية الشراكة التجارية مع أخيه عبد الله.
كما كان السبيعي – رحمه الله – دائم الدعاء لأخيه عبد الله، ذاكرًا أفضاله في كل مناسبة ومبيِّنًا دماثة خلقه وطيب معشره وتحمّله له، وحلمه عندما يغضب من بعض المواقف، وقد سُئل ذات مرة عن الانسجام والإيثار المتبادل بينهما؛ فأجاب إجابة تفيد كلَّ مَنْ يقرأ هذه السطور ويأخذ منها العبرة والموعظة، فقال:
«الشكر ترجمان النيَّة ولسان الطويَّة وشاهد الإخلاص، وإن انسجامي مع أخي عبد الله ليس له حد، وهذا من فضل الله ثم دعاء الوالدين وبرهما وصلاح النية والذرية؛ فنحن نتسابق في الطيب والوفاء والغض عن الهفوات والزلاّت، ، ونحن بحمد الله مضرب مثل للوفاء والشهامة، مع أني أحيانًا أقسو عليه عندما كنت أدرِّسه القرآن، ثم بعد ذلك في العمل؛ لأن هذا الأسلوب هو السائد في ذلك الوقت في المجتمع وهو ما تربينا عليه، فلم نكن نعرف لغة الحوار والإقناع والأساليب التربوية الحديثة، فجزاه الله عني خير الجزاء، فهو أفضل مني وأطيب، ولا أنكر فضله عليَّ فهو يجاملني جدًا ( {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ) البقرة:237.
وإن التسامح والتسابق إلى الطيب بين الأقارب من أفضل الأعمال الصالحة والفضل لمن يصبر ويتحمَّل ولا يدقق على كل صغيرة وكبيرة، كما حصل للحسين بن علي وأخيه محمد بن علي ابن الحنفية، والحسين أمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فحينما وقع بينهما سوء تفاهم أرسل ابن الحنفية وهو الأكبر سنًّا إلى أخيه قائلاً: «أما بعد، فإن لك شرفًا لا أبلغه وفضلاً لا أدركه، فإذا قرأت كتابي هذا؛ فالبس رداءك ونعليك وسر إليّ واحذر أن أسبقك إلى هذه الفضيلة التي أنت أهل لها، فحضر الحسين – رضي الله عنه – إلى أخيه واسترضاه».
فأخي عبد الله يسابقني على التسامح والرضا والبر، وهو أوسع مني بالاً وأكثر حلمًا، ولا أنسى تواضعه وأدبه وحفظه للمحبة والجميل وصلة الرحم التي أمر الله بها، وأوصي أبنائي وبناتي وأبناء أخي وبناته وكل من يقرأ كلامي هذا بالتسابق للطيب والعفو وصلة الرحم، فهذه الأعمال الصالحة بركة في العمر ومجلبة للرزق».
والغريب في صلة السبيعي مع أخيه عبد الله أن توقيعهما يحوي اسميهما معًا، فهما يوقِّعان باسم: محمد وعبد الله البراهيم السبيعي، وهذا شيء يندر أن تراه في عالم المال والأعمال.
وقد ُسئل محمد إبراهيم السبيعي في لقاء صحفي: لو قدِّر لقلبك أن تعطيه لأحد، فلمن تعطيه؟! فأجاب: لشقيقي عبد الله مع احترامي لأم أولادي..!
سليمان الراجحي.. الصديق المنافس
قال محمد بن إبراهيم السبيعي – رحمه الله – :
«أرسل لي تجار الرياض عام (1377هـ/1957م) مندوبين عنهم، فأرسل الحقباني أخاه سلمان مندوبًا عنه، وسليمان المقيرن، أرسل ولده عبد العزيز؛ وصالح الراجحي، أرسل أخاه سليمان الراجحي، الذي ذهب معنا لأداء فريضة الحج، وكان إذا أصبح في منى وعرفة؛ خرج من عندنا طوال النهار ولا يعود إلا في المساء، وإذا قلت له: أين كنت؟! أجاب: أنا أبحث عن خالي؛ يقولون إنه حاج، ولما ذهبنا إلى مزدلفة ذهب أيضًا من عندنا ولم يَعُد إلا عند حلول الفجر، ثم عرفنا بعد ذلك أنه يذهب لشراء العملات من الحجاج؛ لأنها أرخص قيمةً، فهو يحج ويعمل، وكان عمله لأخيه صالح، وكان يتقاضى مرتبًا لا يتجاوز ثلاثين ريالاً، ولكن البركة تحصل – بإذن الله – بإخلاص النية و صفائها، والآن – بفضل الله وتوفيقه – هو من أغنى رجالات البلد، وهذا فيه درس للشباب؛ فيجب على الإنسان أن يسعى ويجاهد لطلب الرزق».
السبيعي وابن باز.. علاقة متينة
حينما نتكلم عن العلاقة التي جمعت محمد السبيعي بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمهما الله – والمواقف العديدة المتنوعة التي جمعت بينهما؛ فلن نستطيع الإحاطة بجوانب هذه العلاقة. فلا يسعنا وصفها، وأعمق من أن تروى في هذه السطور القليلة، فقد كانت قائمة على الحب في الله والتعاون على البر والتقوى، ولعل محمد إبراهيم السبيعي والشيخ بن باز أن ينالا بها الدرجة الرفيعة التي بشّر بها النبي – صلى الله عليه وسلم-، بقوله: «سبعة يظلّهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظلُّه..» وذكر منهم: «.. ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه».
بدأت الصداقة بينهما في السنة الأولى التي ذهب فيها سماحة الشيخ ابن باز لأداء فريضة الحج؛ وذلك في منتصف الخمسينات الهجرية، أي في حدود عام(1356هـ/1938م)، وفي رحاب مكة المكرمة التقيا وتوطَّدت علاقتهما فيما بعد؛ فقد كان سماحة الشيخ ابن باز-رحمه الله- يذهب سنويًّا إلى مكة المكرمة سواء لأداء الفريضة أم للتعبد في شهر رمضان المبارك، وإلقاء الدروس والمحاضرات، وهو ما أتاح لهما الالتقاء؛ لأن السبيعي كان حينها في بدايات عمله التجاري بمكة المكرمة وفي دكان يقع بجانب الحرم المكي، وهذا لا يعني أن العلاقة بينهما كانت تجارية في بدايتها، بل كانت علاقة مكانية لمجاورة محله للحرم.
وقد شاء الله لهذه العلاقة أن تزداد رسوخًا وتشعُّبًا بعد ذلك عبر العمل الخيري لكليهما، واشتركا في صدق المعاملة وحب البذل والعطاء دون حدود؛ فقد كانت ثقة السبيعي بأهل العلم والعلماء عظيمة؛ لذا توجَّه إليهم لمساعدته في طريقة بذل الخير في المكان الصحيح والسليم الذي يضمن الوصول إلى الفئات المحتاجة للمساعدة، ووجد السبيعي ضالته في شخصية سماحة الشيخ ابن باز لصلته بهؤلاء الناس، فكان يستشيره في الطريقة التي يصرِّف بها أعماله الخيرية، واشتركا في تأدية تلك الأعمال بصبر واحتساب.
وكان لدى الشيخ ابن باز حسابات عدة لدى شركة السبيعي المصرفية منها: حساب للصدقات العامة، والزكوات، والمساجد، والدعاة، وكذلك حسابات العمل الخيري الأخرى.
وقد اكتسب السبيعي وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز– على امتداد علاقتهما الطويلة، رحمهما الله -ثقة كبيرة فيما بينهما لا سيما في التعاملات المالية التي تبيِّن معدن الرجال ومدى صدقهم وأمانتهم، ومن ذلك فإن سماحة الشيخ ابن باز كان يصدر الشيكات بشكل مستمر، وكان الشيك يصرف بأمر من السبيعي- رحمه الله – مهما كان حساب سماحة الشيخ ابن باز ضئيلاً، وقد كان لا يرد أي شيك صادر من قبل سماحته – رحمه الله – حتى ولو لم يكن هناك رصيد له بالشركة.
وقد استمرت هذه العلاقة حتى بعد وفاة سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-، ولا يزال السبيعي حريصًا على استمرار علاقته بأبناء سماحة الشيخ ويسأل عنهم لحرصه على تلك العلاقة الجيدة التي جمعته بالشيخ.
وفي الجانب الخيري ما زال التنسيق مستمرًا بين مؤسسة محمد وعبد الله السبيعي الخيرية ومؤسسة عبد العزيز بن باز الخيرية للقيام بالعمل الخيري في أوجهه كافةً خير قيام.
بقيت الإشارة إلى أن هناك عوامل عديدة أسهمت في إنجاح علاقة السبيعي وابن باز الأخوية؛ فقد كانا متقاربين في السن ويتشابهان في كثير من الطباع والسمات الشخصية، كالعصامية والاعتماد على الذات، كذلك البعد الإيماني الذي نهلا من معينه الودَّ والإخلاص والتفاني.
موقف طريف مع صالح الراجحي
من المواقف الطريفة التي حصلت للسبيعي مع الشيخ صالح الراجحي، ما رواه محمد السبيعي، عنه – رحمهما الله- بقوله::
«أعطيت وعدًا لصالح الراجحي بأن أرسل له صرّة نقود من بعض العملات إلى الرياض، ولو تأخرت في الإرسال لفقدنا المصلحة أو الفائدة المرجوة، إذ تصل فائدتنا إلى نحو (8٪)، ولإنجاز هذه المهمة انتقلت إلى مطار جدة لعلي أشاهد أحد المسافرين الذين أعرفهم لإعطائه الصرَّة لإيصالها إلى الراجحي، وشاهدت أحد الإخوة في المطار يرغب في السفر إلى الرياض وهو معروفٌ يُعَتمد عليه، يعمل لدى الأمير محمد بن سعود الكبير، إلا أنني نسيت اسمه وخجلت من سؤاله عن ذلك لكنني اتكلت على الله وأعطيته الصرّة، وقلت له أرغب في إيصالها إلى الرياض؛ فرحب الرجل وأبدى استعداده، وأخبرته أنه سيقابل أحد الأشخاص في المطار لاستلام الصرّة منه، بعد ذلك أرسلت برقية إلى الأخ صالح أخبره فيها أن الفلوس ستأتيكم مع رجل له سنّ ذهب..!
ولكن المشكلة حدثت بعد وصول هذا الرجل إلى المطار، حيث كانت سيارة الأمير تستقبله ومن معه عند الطائرة؛ فاضطر أن ينتقل معهم دون أن يقابل المندوب الذي أخذ يبحث بين الركاب عن الرجل (أبو السنّ الذهب) ويسأل عنه حتى قابل أحد الركاب الذي أشار إليه بأن اسمه (دخيل الله) وقد ذهب بسيارة الأمير إلى مزرعة سموه في الخرج، فما كان من المندوب إلا الانتقال فورًا إلى الخرج لمقابلة الرجل الذي يحمل صرة النقود، وتقابلا هناك واعتذر عن عدم قدرته على مقابلتهم في المطار، وأعطاهم الصرّة كاملة..! فلك أن تتخيَّل لو أن هذا الرجل أنكر أو اختفى بما لديه من مبلغ ولا إثبات عليه بالاستلام، ولكنها الفضائل التي كانت سائدة بين الناس في ذلك الزمن، فقد كانوا يتَّسمون بالأمانة والطيبة والوفاء بالعهد..!».
باحمران.. درس في الأمانة..!
إذا جاز لنا أن نحدِّد الصفة الأولى التي يلحظها بوضوح كل من يتعامل مع محمد إبراهيم السبيعي؛ فهي الأمانة؛ لأنها كانت سجيته الجوهرية على الدوام، ومبدأه الذي لا يساوم عليه؛ لذا فإننا لا نعجب عندما يروي لنا الموقف التالي، إذ يقول:
«فتحنا شركة مع عمر باحمران – رحمه الله- وكانت لديه وكالة يشتري بموجبها الأراضي باسمه، وذهب إلى الأحساء وتوفي في حادث سيارة -رحمه الله وغفر له- ولكن أبناءه- جزاهم الله خيرًا – أفرغوا جميع استحقاقاتنا – من أراض- باسمنا دون أية مطالبة منا بذلك، حتى الأراضي التي اشتراها في الخرج دون علمنا، وهذا دليل على حرصهم على كسب المال الحلال والعف عن الحرام».
السبيعي والمقيرن.. بلا سحور..!
روي السبيعي – رحمه الله – أحد المواقف التي مرت به أثناء انهماكه في العمل، فيقول: كنا في ليالي رمضان نعمل في محلنا في شارع قابل في جدة ومعنا الأخ العزيز عبد العزيز بن مقيرن – رحمه الله – ومع كثرة الأعباء انشغلنا بالعمل ونسينا وقت السحور، فلما سمعنا المدفع؛ أسرعنا إلى محل قريب منا يبيع الهريسة، ولكن الأخ عبد العزيز لم يعجبه البائع فاستغنى عن الهريسة وأخذ شايًا مع رغيف خبز، فكان أداء العمل أحيانًا يشغلنا حتى عن الأشياء الضرورية من الم أكل وملبس.