محمد بن إبراهيم السبيعي
ورع الحياة والتجارة
فيصل بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود
إذا لم يكن قد قُدّر لي أن أعيش حقبة التأسيس والتوحيد التي نهض بها المليك المؤسس – رحمه الله – وأن أعي عهد خليفته سعود، وأن يرحل خلفه الملك فيصل إلى رحمة ربه، و ما زلت في سنوات عمري الأولى، فقد أكرمني الله أن أدرك بقية الرجال الذين عاشوا تلك الظروف التي مرت على البلاد في تلك الفترة، وصابروا كدر الأيام مثلما ذاقوا صفوها، وشهدوا التطورات التي عرفتها البلاد، وهم الذين أناروا الدروب لجيلي، وما زلنا نسمع منهم قصص كفاحهم ونقتفي أثرهم ونسير على منهاجهم.
ومن يقرأ في سيرة الشيخ محمد بن إبراهيم السبيعي التي خطَّها قلمُ ابنته (هدى) في هذا الكتاب، وترجمتها إلى الإنجليزية، لا يجد قصة اعتيادية لرب أسرة وعلاقته بأبنائه وبناته، وهو الذي أكرمه الله بعمر مديد، عاش خلاله تأسيس المملكة العربية السعودية وذروة التطور الأمني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي فيها؛ من الفاقة إلى اكتشاف البترول، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الجهل إلى العلم والنور، ومن الشتات والتنازع إلى الوحدة والانصهار، إلى أن أصبحت – بفضل الله – مضرب المثل في الاستقرار والرخاء، على الرغم من العواصف التي تمرّ بالمجتمعات المحيطة من حولها إلى اليوم.
لذلك، فسيرة الشيخ محمد السبيعي شاهدة على مسيرة هذا الوطن، من مراحل تأسيسه وبدايات بنائه الإداري والاقتصادي في عهد المؤسس وخلفه الملك سعود، ومن ثمّ الملك فيصل إلى مراحل التطوّر والازدهار، حيث عايش عن قُرب الطفرة الاقتصادية التي شهدتها المملكة في عهد الملك خالد ومن بعده الملك فهد، وما تم في عهديهما من تأسيس بُنى تحتية شهدتها المملكة في المجالات كافة، والتي واصل الملك عبد الله من بعدهما التوسع في تشييد هذه البُنى. ولا يزال الشيخ محمد السبيعي يشهد ويُعايش المزيد من التوسع في المجال الاقتصادي والتجاري في هذا العهد الزاهر بقيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز – حفظه الله -.
لقد كان من حسن حظي أن أجالس بعضاً من هؤلاء الرجال بالساعات، وأن أستمع منهم إلى بعض القصص والروايات النادرة، التي تصوّر شظف العيش والعوز والعصامية، والترحال في طلب الرزق، حتى تحقق – بفضل الله – لهذا الوطن ما هو عليه الآن من نعمة الأمن والأمان والازدهار.
وسعدت بمشاهدة الفيلم التسجيلي الذي رافق الكتاب، مجسداً بالصوت والصورة، كل مراحل حياته وشقيقه الشيخ عبد الله، الذي كوّن معه رواية نجاح مكتملة العناصر، كأفضل ما تكون عليه الشراكة بين شقيقين، متجانسين في العمر والظروف، ومتكاملين في الأهداف، ومتفقين في المبادئ والأخلاق، حتى حققا سمعة عالية في المجتمع، وكسبا ثقة المتعاملين، وربحا أولاً وأخيراً رضا الباري سبحانه وتعالى عبر أصالة التدين والورع، والأمانة في التعامل، والنزاهة في العلاقات التجارية، وتربية الأولاد على طاعة الله سبحانه والالتزام بفروضه، والإسهامات الخيرية، والقيام بالواجبات الاجتماعية، وأداء الحق المعلوم للسائل والمحروم.
الكتاب – كما وجدته، وكما أشرت سابقاً – لا يخص أسرة الشيخ محمد السبيعي، وإنما هو شهادة على مراحل التأسيس والبناء، يلخص قصص العشرات من البيوتات التجارية، التي قامت على النزاهة والأمانة والصدق والمحافظة، ونبذ مظاهر الإسراف والتبذير، وأصّلت معاني النجاح بأنقى صورة وأزهاها، كما ينبغي أن تحكم الأسواق والمصارف وتجارة التجزئة والجملة.
والكتاب يصوِّر كيف ينزل الله البركة في تجارة من ديدنه القناعة بالربح القليل، أحد عناوين التجارة الرابحة عند الله سبحانه وتعالى.
شاعرية السبيعي
معالي الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الخويطر – رحمه الله-
كثير من الناس يعرف أن الشيخ محمد بن إبراهيم السبيعي رجل أعمال ومال ناجح، ومن البارزين في هذا المجال، ومن الذين لهم سيرة حسنة في صدق الأمانة، وطيب التعامل، والمسارعة في عمل البر، والمساهمة في أعمال الخير، ولكن قليلاً من الناس يعرف أنه عصامي بدأ حياته (صبياً)عند عمه بالأجر، في مكة المكرمة، يعمل في دكانه وقتاً، ويحمل (زفة)الماء على كتفه بعض النهار، وأن هذا العمل على ما فيه من مشقة وجهد، وقلة مردود، قد عدَّه الشيخ محمد خيراً مما مرّ به قبله، إلى أن بدأ في التجارة، فنما معها، ونمت معه، وعرف كل منهما الآخر، عرف مراميها، وعرف سير التجار، وخبر تعاملهم، دخل التجارة، وفي نيته أن يكون أميناً صادقاً، فوفَّقه الله سبحانه، لأن من ركب مطية النية الحسنة لا بد أن توصله إلى مقصده، وقد وصل أبو براهيم إلى ما خطَّط للوصول إليه، تاركاً وراءه صعوبات، متغلباً على ما اعترض طريقه من هزات ليست غريبة على مَن عمل في التجارة، خاصة في وقت حرب عالمية، صهرتْ العالم بأجمعه، ورمت بظلالها على بلادنا، ولكنه كان مع أخيه سبَّاحاً ماهراً، استطاع أن يصل الشاطئ بسلام، و أن يهيئ مفحصاً مريحاً في السوق التجارية السعودية.
يتوقّع أن مثله يكون مشغول الذهن والجسم في أعماله التجارية، ولا يلتفت إلى رفاهة الفكر، وتسلية النفس، ولكن قد تكون هذه المشكلات التجارية، والظروف الصعبة، هي التي وراء عثوره على متنفس وجد فيه الراحة عندما تضيق به السبل المادية.
ونعم المتنفس الشعر، ولعله وجد في كل قصيدة ينظمها ابناً أو بنتاً، يأنس بقراءة ما أنتجته قريحته، وما قاله سجل متقن مفصل لما كان عليه ذهنه في أوقات مختلفة، مما جعل أغراض شعره تتركَّز في عدد منها، سيطرت على شعره، وغلبت على ذهنه، فصارت طاغية على ما يقول، وهو لا ينفر من ذلك، بل يجد لذة في أن يعيد ويكرر بصور مختلفة أنواعاً من الشعور أصبحت لازمة من لوازم قصائده، عليها مسحة السعادة حتى وهو يتكلم عن أحلك المواقف. روحه المرحة تغلبه؛ وهذه نعمة من نعم الله تساعد المرء في تفادي الوقوع في قبضة الكآبة والحزن.
ومن الأمور التي شاعت في قصائده حبه المنقطع النظير لزوجه، أم أولاده، واعترافه بجميلها عليه مكرراً ذلك، وآتياً به في صور مختلفة، يشيد بوقوفها بجانبه في أوقات الشدة، ولهذا انطبعت صورتها الخيِّرة في عدسة عينه، فهو لا يرى غيرها جميلة، مهما كانت الأخرى مزوَّقة، ومصبغة، ممن يَشدَهن غيره ممن يسافرون إلى الخارج، ويتعرضون للإغراء. يقول في هذا الاتجاه قولاً صادقاً لا تكلُّف فيه.
والغرض الثاني حبه لأخيه، واعتزازه به، وإشادته بالتعاون بينهما، ومن يعرفهما يجد لهما سبب هذه اللحمة التي اتسمت بها روح الأشقاء في ذلك الزمن.
ومن الأغراض التي تتكرر في شعره حبه لأولاده، ورعايته لهم، وحرصه على تعليمهم، ونصحه المتكرر لهم، وإعطاؤهم حصيلة تجارب عمره في الحياة، ومحاولة أن يكون ذلك في ذهنهم لا يغيب عنهم.
وهو معهم في إقامته وسفره لا يغفل عنهم، وقد جاءت ثمرة هذه الرعاية، وحصيلة هذا الجهد، مرضية له، فهو يفاخر بهم، ويعتز بسيرهم في هذه الحياة، وتقر عينه عندما يراهم وأولادهم بسعادة وهناء، نتيجة استقامتهم، وحماية الله لهم من الأمراض الخُلقية المنتشرة بين الشباب في هذا الزمن.
وقد قبل الله جهده، ورعى عنايته، فأبعدهم الله عمّا كان يحذِّرهم منه، وكانت عينه يقظة في بعدهم عمّا يشينهم.
وقصائد أبي إبراهيم كل واحدة تحتاج إلى دراسة، ففيها ما يخرج به من حكم ومن حصيلة تجارب، ومنها ما يوصل إلى عمق فكره، وإلى ذهنه، وكيف يعمل، وكل منها له طابعه الذي لا يغيب عن ذهن القارئ المتمعن، ففكره له نهج لم يتخل عنه في أي قصيدة من قصائده، ومهما استطرد، وأبعد به الفكر تجده يعود إلى ما يسكِّن فؤاده.
أما عن شعره فهو ارتجالي، توحيه الساعة، ويأتي به الظرف، يستثير شعوره أمر فيسكب صافي فكره فيه شعراً، ولهذا فقصائده سجل لما مرّ بذهنه من صور، وما دغدغ صدره من عواطف، صلته بأهله، صلته بحكامه، صلته بأقاربه، صلته بأصدقائه، شعوره في السفر، شعوره في الإقامة، شعوره وقت الشدة، شعوره وقت الرخاء.
ولا بد أنه حفظ في صغره، ومقتبل عمره، شعراً كثيراً أوجد عنده هذه المَلكة، التي عاضدتها شجاعة في قول الشعر، ساعده على تمهيد طريقه فيه، وزمنه كان زمن سمر وأشعار، وكان يروي في مجالس السمر قصائد فطاحل الشعراء النبطيين، وما حفظ في زمن الصغر له تأثيره العجيب، مع سهولة في الحفظ تورث الملكة على قرض الشعر، وصاحب الحظ في هذا المجال من يواظب ولا يتوانى. وقبل أن أرفع سن القلم أود أن أشيد بالمادة التاريخية التي جمعتها أم الوليد في هذا الكتاب، فهي على قصرها قد أحاطت بجوانب مهمة من حياة الشيخ السبيعي وأبرزت أهم محطات مسيرته الحافلة بالإنجاز.
و(السموحة) كلمة وردت عدة مرات في شعر السبيعي، فليسمح لي أن أستعيرها هنا وأقول للقارئ: (السموحة) إن كنت أطلت، فمَن أكتب عنه وعن شعره (عملاق).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب
العالمين.
السبيعي.. محب للعلماء رحوم بالفقراء!
أحمد بن عبد العزيز بن باز
الشيخ محمد السبيعي رجل محبوب ومعروف بأعمال الخير ومساعداته لذوي الحاجات، وكان سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز – رحمه الله – يخاطبه في أمور كثيرة من مساعدة الفقراء والمحتاجين وفي بناء المساجد والجمعيات والمراكز الإسلامية، وهو مشهود له بالخير وحبه الإنفاق وحب المساكين.
وكانت علاقة سماحة الشيخ مع السبيعي قديمة جداً، وقد ذكر ذلك الشيخ محمد السبيعي في مجلس الشيخ بقوله لسماحة الشيخ بقدم علاقته مع سماحته وتعاونه معه وكان بينهما زيارة متبادلة، واعتاد أن يستضيف سماحة الشيخ إثر عودته من الطائف بعد الصيفية وفي مناسبات عائلية.
والمواقف بين الشيخين كثيرة جداً ومنها: أن سماحة الشيخ كانت لديه عدة حسابات في مصرف السبيعي منها: حساب المساجد، وحساب الدعاة، وحسابه الشخصي.
وكان السبيعي لا يتوقف في صرف الشيكات التي تصدر من سماحة الشيخ، وبخاصة حسابه الشخصي حتى لو كان حساب سماحته بدون رصيد فإنه يصرف له الشيكات، ولا يتوقف فيما يصدر من سماحة الشيخ، وكان سماحة الشيخ يدعوه في كثير من المناسبات فيستجيب لدعوته، كما أذكر أن والدي سماحة الشيخ – رحمه الله – أوصى بأن جميع ما يذكره الشيخ محمد السبيعي من ديون وأموال فإنه مُصدَّق ولا يحتاج إلى بيِّنة أو أي شيء، وهذا يدل على عمق العلاقة وصدق المحبة وأن ما بينهما أكثر بكثير مما بين الأخوين الشقيقين.
والشيخ محمد السبيعي صاحب فضل وحب لعمل الخير ومساعدة المساكين ومحب للمشايخ والعلماء وبخاصة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وصاحب جود وكرم.
حياة السبيعي.. مدرسة لرجال الأعمال
خالد بن عبد العزيز المقيرن
الحديث عن الأوفياء، وعن الأعلام كثيراً ما يكون صعباً لأنك تتحدث عن أعلام يصعب أن توفيهم حقهم، فرحم الله جدي ووالدي وأطال الله عمر والدنا الشيخ محمد السبيعي، فهم أعلام بأخلاقهم وتعاملهم وبتجارتهم التي بنيت على المحبة والنقاء والبعد عن البغضاء، ولنا أن نفتخر نحن الشباب بمثل هذه النماذج التي أسست للعمل التجاري والاقتصادي في بدايات النهضة الاقتصادية في بلادنا، ومما لا شك فيه أن كثيراً من المعالم الاقتصادية الحديثة في بلادنا إنما تنطلق في أساسها من جذور أصيلة غرسها الجيل الأول من رجال الأعمال في بلادنا.
إن الحديث عن شخصية بقدر الشيخ محمد السبيعي، ليس بالأمر السهل، فالحديث عنه لن يكون محصوراً في جانب واحد، فهناك الكثير من الشمائل والصفات التي يتميز بها والدنا الشيخ محمد السبيعي، فإذا ما تحدثنا عن الجانب التربوي فهو مربٍ فاضل بنصائحه وتوجيهاته، فقد اعتدنا منه على النصائح والتوجيهات التي تتسم بالحكمة وبُعد النظر وعمق التجربة الحياتية.
وإنني أقدر كثيراً حرصه على الكثير من النصائح الأبوية التي نتشرَّف بسماعها دائماً منه، ولا سيما في أثناء عملنا على تأسيس بنك البلاد، فهو يعتبرنا جميعاً أبناءه؛ ولهذا كثيراً ما نلمس مدى صدق تلك التوجيهات التي لم تأت من فراغ، بل من حياة ملأى بالتجارب والأحداث التي عاشها والدنا الشيخ محمد، وسجَّل خلالها صفحات مشرقة بالنجاح والكفاح، فهو رجل عصامي متفائل، يزن الأمور بدقة وروية، وهذه الصفات الحميدة تتجلّى في تجربته الثرية في مجال التجارة التي عاصره منذ نعومة أظافره.
وأما الحديث عن المجال الخيري وما يقدمه من بذل في أوجه الخير، فهو علامة بارزة في مسيرته، فهو من أشد الناس حرصاً على المساهمة في أوجه الخير وله إسهام كبير في صفحات العمل الخيري في بلادنا، إضافة إلى حرصه على تأسيس مؤسسة خيرية خاصة بعائلته تُنَظِّم العمل الخيري الذي يحرص عليه هو وأخوه الشيخ عبد الله.
إن علاقة جدي ووالدي بالشيخ محمد علاقة جيل شامخ من رجال لم تفرّقهم منافسة التجار؛ لأنهم علموا حقيقة المنافسة
الشريفة التي لا تتعارض مع الأخوة ومع الفطرة السليمة، وكثيراً ما كنا نسمع عن وقوف بعضهم مع بعض في الظروف الصعبة، فقد جمعتهم رفقة الطريق في الأسفار والمبيت في الغربة في أثناء أسفارهم التجارية، تقاسموا لقمة الخبز وكأس الماء، جمعتهم مجالس الذكر ولم تشغلهم تجارتهم عن تفقد أحوال بعضهم بعضاً، إنهم جيل من الوفاء والمحبة، وهذا ما سمعته بنفسي من والدي ومن الشيخ محمد.
فتلك النفوس النقية لم يغيِّرها حب المال وكثرته فبقوا كما عرفهم مجتمعهم الذي أحبهم وأحبوه، أوفياء أمناء يراقبون الله في كل أعمالهم، يبتعدون عن الشبهات مهما كانت أرباحها المادية، حريصون أن يبنوا تجارتهم بأيديهم وبعرق جبينهم، نقية عن كل ما قد يشوبها، متطلعين إلى طموح مشرق يكتسي بياض النقاء، محاط بأفعال الخير التي آمنوا بأنها جزء من بركة المال، فكان للفقراء والمساكين حق معلوم في حسبة أموالهم، إن حبل الخير والعطاء الذي مدوه لم ينقطع على مر السنين، وها نحن حتى اليوم نسمع ونشاهد صوراً متعددة من صور البذل والعطاء التي تعكس لنا المعدن الأصيل لأولئك الرجال، الذي استوعبه الأبناء ليقتفوا أثر ذلك الطريق الخيّر.
إن المتأني في قراءة قصص البدايات لآبائنا في عالم التجارة ومنهم والدنا الشيخ محمد يقف كثيراً أمام العديد من المواقف المشرِّفة التي تتجاوز أمر البيع والشراء بكونه مفهوماً اقتصاديًّا، إلى ما هو أبعد من ذلك من الشراكة التي دامت بالقليل ولم يخدشها الكثير حينما توسعت الأرزاق، دامت لكونها نابعة من قلوب صافية تحب لغيرها ما تحب لنفسها.
ورغم بساطة البدايات إلا أنها كبرت بأفعالهم وتوسعت ولم يكن سهلاً، فقد تكبَّدوا الكثير من المشاق والتعب، لكن إصرار الرجال وعزيمتهم وإخلاصهم كان المعين لهم بعد الله سبحانه وتعالى، إننا أمام رجال مكافحين غرست بأيديهم الأشجار المثمرة وسقتها بعرق الجبين.
فمن محالَّ الديرة القديمة بالرياض ودكاكينها الصغيرة إلى تحقيق حلم عميق في ذاكرة الآباء، إنه بنك البلاد الذي كان ذات يوم حلماً ليس لوالدي – رحمه الله – فحسب، بل لعدد من رفاقه وأحبائه في حياته وأولهم الشيخ محمد السبيعي والشيخ عبد الله السبيعي، إنني أرى فيهم أحد أهم أركان هذا الصرح المصرفي الذي ولدت فكرته قبل نحو نصف قرن.
إن رجالاً بقدر الشيخ محمد السبيعي يمثِّلون مدرسة عريقة في العمل التجاري، وهم يستحقون أن تُؤخذ تجاربهم نموذجاً لكونها إحدى المراحل التاريخية للعمل الاقتصادي لبلادنا في العصر الحديث، فهم من عاصر شح الموارد وصعوبة المواصلات، فقد سمعنا منهم كيف كانوا يبعثون إرسالياتهم المالية من مكان إلى آخر ليس بضمان بنكي ولا أوراق ثبوتية، بل بالثقة وحدها والأمانة وقبل ذلك بالتوكل على الله تعالى.
يحق لنا أن نفخر بمثل هذه الشخصيات، ليس بنجاحهم في عالم المال والأعمال فحسب، بل حتى في سيرة العطاء والبذل التي رسموها، وها نحن أبناءهم نطمح في أن نواصل ونصل ولو إلى جزء بسيطٍ مما بنوه لنا جميعاً، غير أنني أراه ليس سهلاً.
عصاميُّ.. من جيل الطين
الأستاذ / حمد بن عبد الله القاضي
يتألق العمل الجميل بهاءً عندما يتوجه إلى أقرب الناس؛ من الآباء والأمهات والأبناء لمكانتهم عند ذويهم. ويتضاعف هذا العمل عندما يقترن بفضيلة البر، ويتآخى مع شيمة صلة الرحم، نحو من أمرنا ربنا أن نخفض له جناح الذل من الرحمة.
ولكم سعدت عندما أبلغني أخي عبد العزيز بن محمد السبيعي أن أخته الفاضلة (هدى بنت محمد السبيعي) أعدَّت كتاباً في سيرة والدهم الشيخ محمد بن إبراهيم السبيعي – حفظه الله – هذا (الرجل العصامي) بكل ما تعني الكلمة من معنى، ذلك المكافح الذي بدأ رحلته التجارية صبيًّا مغترباً لا يمتلك سوى قوت يومه، وولج ميدان الحياة في ظروف بالغة الصعوبة مع أخيه عبد الله، فصبر وصابر وسهر وجاهد في طلب الرزق، وواصل رحلته في عالم التجارة الشائك، حتى أضحى أحد رجال الأعمال الكبار في هذا الوطن، فضلاً عن إسهاماته الخيرية الكبيرة سواء على المستوى الشخصي أو عبر مؤسسة محمد وعبدالله السبيعي الخيرية.
إن من يقرأ هذه السيرة التي حالف التوفيق ابنة الشيخ السبيعي في إعدادها وصياغتها؛ سوف تضيء عقله بالإعجاب نحو رجل تجاوز (بصبرٍ أيوبي) جبال الصعوبات والعراقيل، وتخطّاها بحافزين: إيمانه بربه أولاً، ثم عزيمته الصلدة التي لم تلن، مؤمناً بمقولة عمرو بن العاص: (الفلاح هو تجاوز العثرات)، فلم يكن الطريق أمام الشيخ السبيعي وجيل الرواد محفوفاً بالأنهار، ومخضباً بالورود.
إن تقديم تجربة هؤلاء العصاميين (جيل الطين) كما يسميهم الأديب الراحل محمد حسين زيدان وتقديمها للأجيال الجديدة رسالة بالغة الأهمية (لأجيال الطين)، تقول سطورها: إن بلوغ وتحقيق الطموحات سواء أكانت مادية أم معنوية لا يتأتى إلا عبر دروب النَّصب والجهد والعرق والعطاء، والشاعر
الحكيم المتنبي يقول:
بَصُرتَ بالــراحة الكبـرى فلم ترها
تُــنــال إلا على جـسـرٍ من التـعــب
وهناك مقولة صادقة جاءت محصلة تجربة رجل أعمال غربي فشل في ثمان وأربعين صفقة تجارية في حياته، ولكنه بعدها انطلق في أروقة العمل والصبر والطموح، حتى أورق ذلك نجاحاً كبيراً، وأصبح أحد رجال الأعمال الكبار، متربعاً على عرش عشرين شركة كبرى، ولو ركن إلى خطوات الفشل وتعثُّر البدايات، ونَسب إخفاقه إلى الحظ كما يفعل الكثيرون.. لو فعل ذلك لظل رهين محبسي الفشل واليأس حتى يأتيه اليقين، لكنه كما قال ملخِّصاً تجربته في هذه المقولة: (لقد وجدت أن النجاح 99 % جهداً وعطاءً، وواحداً منه ما يُسمى بالصدفة أو الحظ…!).
والشيخ محمد السبيعي أيقن أن النجاح لا يجيء عبر ضربة حظ أو نتيجة ُصدف، لقد أدرك أن الراحة لا تُنال إلا على جسر من التعب، وأن النجاح في الحياة ليس تنظيراً في مجلس، أو تحليقاً في عالم الأحلام، ولكن الأمر – بعد توفيق الله – تخطيط وجهد وعدم ركون إلى فضاءات التعثُّر السوداء، بل هو الانطلاق منها إلى مدارات الطموح والإبداع والعطاء. وبهذه الرؤية للحياة والعمل بدأ وانطلق واستمر حتى حقق معادلة التفوق التي جسدتها بصدق سطور هذا الكتاب.
إن القراء سيجدون بين دفتي هذا السفر فيضاً من التجارب والمواقف، وكمًّا من الصعوبات والعثرات التي كادت أن تثني الشيخ عن مواصلة مسيرته في عالم الأعمال، ولكنها كانت وقودَ طموحه، وكانت حوافز عزيمته، من هنا نجح وأصبح رقماً كبيراً في دنيا رجال الأعمال.
وبعد:
لقد استطاعت (هدى السبيعي) بكل نبض الحب لوالدها أن تسكب فجر حروفها على دجى عنائه؛ لتسجل – بوفاء البنوة – تفاصيل تجربة الأبوة، ناقلة بأمانة ما مسّ أباها من حرائق الحياة، وما ارتوى به من رحيقها، ومدوّنة قدرة واحد من جيل الرواد، أسهم في تحويل نشيج الأمس القريب إلى نغمات نشيد تأنس بها الأجيال في حاضرها، تماماً مثلما ارتوت بجداول الحنان، ودفء الرعاية من آبائها وأمهاتها بماضيها.
أستشرف أن يفيد من هذه السطور كل من يقرأ ويرحل بأحداقِه بين حدائق هذا الكتاب، وسنابل حروفه التي نقلت وطافت في مدارات صاحب هذه السيرة.