نشأ محمد البراهيم السبيعي، محبًّا للمغامرة غير هيَّابٍ ولا متواكل؛ لذلك لم ينتظر كثيرًا في هذه الوظيفة، بالرغم أنه لم يكن مضطَّرًا لأنْ يُغامر، فإذا به يقرر أن يعمل بالتجارة، وعزم على تركها؛ لأنها لا تلبي طموحه؛ آملاً في الحصول على عائد مادي مجزٍ يكفيه ويكفي أسرته الصغيرة، مؤونة الحاجة..؛ فاتخذ قرارًا صعبًا بالعودة إلى السوق، وترك الوظيفة الحكومية، ولكن عزاءه أنه لم يَعُد وحيدًا وهو يتنقل إلى مكة المكرمة؛ بفضل توكله على الله ثم مثابرته الكبيرة وهمته العالية وخبرته بالسوق ومعارفه هناك؛ ما شجَّعه على الإقدام على هذه الخطوة..، وهي خطوة ليست غريبة على من يطالع مسيرة السبيعي العملية المظفَّرة، وسيتبادر إلى الأذهان قول الشاعر:
إذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ فَإنَّ فَسَادَ الرَّأْيِ أنْ تَتَرَدَّدَا!
وربَّما كان العمل في المجال التجاري، غريزة قبل أن يكون نشاطًا..! لأن من يحوز القدرة على تحمُّل تداعياته؛ ووجد راحةً في مزاولته؛ فهو بمثابة من امتلك المفاتيح التي لا محالة، ستُعينه على اقتحام عالم التجارة من أوسع أبوابه.. لأن تحديات التجارة ماضيًا وحاضرًا؛ تظل كما هي وإن تغيَّرت الأشكال؛ ولكن تبقى المنظومة والأنظمة والضوابط التي تتحكَّم في عقل التاجر وطبيعة السوق؛ وروح المبادرة؛ ومعرفة النشاط؛ ودراسة السوق وجدواه؛ واكتساب الخبرات؛ لأن هذه الشروط من صميم العمل التجاري في كل زمان ومكان.
من هذه المفاهيم؛ بدأ محمد البراهيم السبيعي نشاطه، إيمانًا منه بأن التجارة يجب ألا تصاغ بالجمود..، عندها استدعى أخاه عبدالله بعد أن أنهى دراسته ليبدآ حياةً أخرى مع التجارة.. هذه المرة بدآ بفكرة العمل المؤسسي عندما اتجهوا بالانتشار من خلال العقود الحكومية التي التزموا بها مع وزارة المالية لتزويدهم بالزي السعودي الرسمي.. بعدها بدأت فكرة التنوع في التجارة، فاقتحم السبيعي بمساعدة أخيه عالم الصرافة، مستثمرًا توافره في مكة وتنوع عملاتها في موسم الحج..
مرَّ محمد السبيعي في سيرته التجارية بأربع مراحل مثّلت حجر الأساس ونقاط التحول في مستقبله في عالم المال والأعمال؛ إذ انطلقت المرحلة الأولى عندما بدأ عمله التجاري في سوق الجودرية في مكة عام (1353هـ/1935م) وقد كان عمره، حينذاك، عشرين عامًا. وبدأت المرحلة الثانية عندما أسس أهم شراكة تجارية في حياته مع سليمان بن غنيم رحمه الله عام (1354هـ/1936م). وجاءت المرحلة الثالثة حينما قرر تأسيس شركة (محمد وعبد الله السبيعي للصرافة والتجارة) مع أخيه عبد الله في عام (1357هـ/1938م). وتوجت المرحلة الرابعة حين أسس شركة محمد إبراهيم السبيعي وأولاده (ماسك)عام( 1433ه/2013م),وسيأتي تفصيل المراحل الأربع تباعًا بحول الله.
بعد أن أمضى محمد بن إبراهيم السبيعي زهاء الأربع السنوات في وظيفته الحكومية بقرية المسيجيد، عزم على العودة إلى مكة المكرمة؛ لعله يجد فرصاً أفضل هناك، فقد عاد إلى مكة مع أمه وأخيه عبد الله وسكنوا عند عمه ناصر وقد كان عمره حينها عشرين سنة، وبدأ العمل في سوق الجودرية بمهنة (محرّج).
استمر محمد السبيعي بالعمل (مُحرِّجًا) في سوق الجودرية فترةً من الزمن تعينه على بداية عمله التجاري، ويروي قصته في ذلك فيقول:
«كان سليمان بن غنيم، أحد تجار سوق الجودرية يود السفر لمدة ستة أشهر إلى دارين في المنطقة الشرقية لزيارة أقاربه ولكي يتزوج، وقد كان يبحث عن شخص يمتاز بالنزاهة والإخلاص وصدق العزيمة؛ ليسلمه أعماله طوال وقت غيابه، وكان ابن غنيم صديقًا لعمي ناصر فأشار له أن هناك رجلاً مناسبًا لتلك المهمة وهو ابن أخيه محمد, فعقدنا اتفاقًا (أنا وابن غنيم) على أن يكون الربح مناصفة بيننا, واتفقنا على الشراكة على أن أتقبَّل بموجبها ما في دكان ابن غنيم من أقمشة وعقل وغتر مقابل تسعمائة وخمسين ريالاً, مع أنها لا تساوي -في تقديري- أكثر من خمسمائة ريال, إلا أنني وافقت على هذا العقد لقناعتي بأهمية هذه الشراكة, وعزمت على أن تكون بداية انطلاقتي في عالم التجارة».
وامتاز السبيعي في تلك الفترة بالحيوية في أداء أعمال التجارة في الدكان، وعُرف عنه إنجازه المتقن لكافة أعماله التجارية، ويتذكر السبيعي هنا كيف كان يقاوم ويغالب النعاس وهو منكبٌ على مراجعة أعماله اليومية، إذ يقول:
«كنت أسهر لمراجعة الحسابات بعد عناء يوم كامل مع أخي عبد الله وابن غنيم، وإذا شعرت بالنُعاس؛ وضعت القلم خلف أذني وأخذت غفوة دقيقتين أو ثلاثًا، ثم أكملت معهم مراجعة الحسابات، وكانت تكفيني هذه الدقائق المعدودة، لتجديد نشاطي، ومتابعة عملي حتى وقت متأخر من الليل».
واستمرت شراكة السبيعي مع سليمان الغنيم حوالي 28 سنة، وفي عام (1382هـ/1962م) قررا الانفصال وطي صفحة التجارة بينهما؛ نظرًا لكبر الأولاد وكثرة الأعمال، وحُلّت الشركة بكل محبة ووفاء، واتفقا على أن تحل الشركة بوساطة صديقين، هما: سليمان بن إبراهيم القاضي؛ وعبد الله العوهلي، حيث تمت تصفية الشركة بكل أمانة ووضوح.