بدايات الكفاح

محمد السبيعي في جلسة عمل وعلى يمينه أعز أصدقائه وهو سليمان بن عبدالله ابن غنيم

محمد السبيعي في جلسة عمل وعلى يمينه أعز أصدقائه وهو سليمان بن عبدالله ابن غنيم

امتهن محمد السبيعي في بواكير حياته، كل ما يخطر على البال من الأعمال البسيطة والشاقة جدًا، التي قد تعد متواضعة في أعين البعض لكن حين يتم النظر إليها كعمل وقيمة؛ فإنها تحمل في طياتها  استحقاقًاً للكرامة؛ وميدانًا أوليًا لتعلّم أسرار الذات وإدراك معنى الجهد كوسيلة للكسب الحلال..؛ إيمانًا منه بأن مَنْ يحتقر شيئًا من قيمة العمل؛ لم يدرك أسراره، وفاته أسرار التعرٌّف على طرائقه التي تؤدي إلى حيازة ثمار الكسب اللامتناهي في مسيرة الحياة؛ لتصبح الحياة مسيرة متواصلة من النجاح اليومي في ميادين العمل والإنجاز والتوفيق، كما قال الشاعر:

إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى        فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ..!

ولأن محمد السبيعي – رحمه الله- قد أدرك مبكرًا أن النجاح، أي نجاح في الحياة، هو همٌّ، يؤرّق المتطلعين إليه، وإحساس يراودهم في أحلامهم، ويتربَّص بهم وحدهم؛ فيحوّلهم إلى مستويات رفيعة، ويجعل منهم آخرين على مساحات هذا الكون المترامي الأطراف؛ متيقنًا بأن الإنسان إن لم يزد على الدنيا؛ تحوّل زائدًا عليها..! لذلك تساوت أمامه كل المهن التي مارسها.. فكان طبَّاخًا وسقّاءً؛ لكنه حلمه الأكبر الذي ظل يطارده أن يصبح تاجرًا كبيرًا..؛ المهم أنه صمّم وقرّر وتوكل على الله..!

ففي حوانيت مكة وبين أزقتها وبيوتاتها؛ بدأت قصة الكفاح،  وكانت بدايات السبيعي  في المهن اليدوية الشاقة، ففي عام (1346هـ/1928م)؛ عمل السبيعي، وهو ابن ثلاثة عشر ربيعًا مع عمه ناصر في دكانه الصغير، بائعًا في الصباح.. مقابل ثمانية جنيهات مجيدية لمدة عشرة أشهر، ومع ساعات المساء الأولى، كانت له مهمة أخرى؛ فقد كان يعاهد (عين زبيدة) في المساء سقَّايًا، يجلب الماء إلى بيت عمه وديوانه.. مقابل أجر زهيد؛ كي يساعد ويخفف من الأعباء الملقاة على عاتق أسرته المحتاجة،  قال محمد بن إبراهيم السبيعي – رحمه الله- متحدثًاً عن تلك التجربة:

«كان أهل مكة يشربون من عين زبيدة، وكانت مهنة السِقَاية مهنة منظمة، حيث كان كل بازان – وهو المكان الذي يجلب منه الماء – له شيخ ينظِّم السقاية، فإذا تعدى السقاء، ولم يلتزم بدوره في السقاية، فإنه يوقف ويجلد في المرة الأولى عشرين جلدة، وتضاعف العقوبة كلما تكرر الخطأ، وكانوا يستعملون القِرَبَ والزفة؛ لنقل الماء على ظهورهم».

بعد فترة من العمل المضني في السِّقاية مع عمِّه ناصر؛ أدرك السبيعي أن كسبه لا يتوافق مع طموحه، ولا يحقق هدفه الذي ترك من أجله بقايا الروح في عنيزة.. باحثًا عن عمل أكثر ربحًا؛ ليسهم به في مساعدة أسرته، وليكون دخله موازيًا لتضحيته وتنازله عن إكمال الدراسة، وفي اليوم التالي، خرج من دكان عمِّه، يجرِّب الفرصة تلو الأخرى، فتقدَّم للانخراط في الجيش ولكنه لم يُقبل؛ لصغر سنِّه؛ فتوجَّه إلى العمل بنَّاءً مقابل تسعة قروش في اليوم، واستمر على هذا الحال يكابد ويعمل بجهد يفوق إمكاناته العمرية بمراحل إلى أن توسط له أحد معارفه وهو إبراهيم الفريح – رحمه الله – للعمل في قصر الملك عبد العزيز مشرفًا على العمَّال بمرتب ريال مجيدي واحد في اليوم، وهو يساوي اثنين وعشرين قرشًا. وانخرط السبيعي في هذا العمل بجدٍ وإخلاص وتفانٍ، ولكنه في قرارة نفسه كان يتطلع إلى عمل أفضل.

وذكر السبيعي أنه قد عمل طبَّاخًا لمدة سنة وعشرة أشهر عند عمِّه ناصر السبيعي، ومن المواقف التي لا ينساها في ذلك الوقت أنه كان ذاهبًا ذات يوم لإحضار الفطور، وكان الأمير فيصل بن عبدالعزيز، أميرًا للحجاز في ذلك الوقت، وإذا بسيارة مكشوفة (من نوع فورد) وفيها رجال عدة من بينهم عبد الله بن خصيب أحد مرافقي الأمير فيصل، كانوا يطلقون النار في الهواء ويجوبون الشوارع تعبيرًا عن الفرح وإعلانًا لانتصار الملك عبد العزيز في معركة السبلة عام 1347هـ/1929م.

ومما ذكره عن أحوال عمله في تلك الفترة، يقول:

« فكرت في تعلّم الخياطة مثل إخوة لنا في الجودرية من عائلة الشريف كانوا يعملون في خياطة الثياب ولم أستطع، إذ كان ثمن ماكينة الخياطة مئة وستين ريالاً، ولم أكن أملك هذا المبلغ..! ».

ومن المهن التي اشتغل بها أنه عمل دلَّالاً (بائعًا متجولاً) يأخذ السجادة ويحملها على رأسه ويطوف بها في الشوارع من الصباح الباكر وحتى المساء، يبيعها أحياناً ويحصل على بعض الدراهم، ويعيدها أحياناً أخرى إلى حيث أخذها دون أن يحصل على عائد مادي رغم سعيه وجهده.

وتتجلَّى لنا في هذه المهن – التي عمل بها محمد بن إبراهيم السبيعي – روح الحماس وعنفوان الشباب واندفاعه في سبيل النجاح، وهو في كل ذلك يردد حكمته: أن لا عسير إذا طلبت من الله التيسير ومستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: 2، 3).

وفي عام (1349هـ/1931م) أعلنت إمارة مكة المكرمة بوساطة وزير المالية الشيخ عبد الله بن سليمان – رحمه الله – عن وظيفة بمسمى (مفتش طريق) لتفتيش الجمارك في قرية المسيجيد الواقعة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ فعمد ابن مسند للبحث عن سبعة أشخاص للعمل، وكان محمد بن إبراهيم السبيعي واحدًا ممن وقع الاختيار عليهم؛ فذهبوا إلى المسيجيد، وكان الراتب ثلاثين ريالاً في الشهر، بالإضافة إلى تأمين المأكل والمشرب والسكن، وهذا عرض مغر.

بدأ السبيعي يشعر بالأمان مع الوظيفة الحكومية؛ فقد كان دخلها مناسبًا لأن يستدعي والدته وأخاه للعيش معه؛ ليُعنى بهما  عن كثب، سيما وأنه بات اليوم قادرًا على إعالتهما وخصوصا أن الوظيفة الجديدة قد هيأت له السكن الجيد والراتب المجزي؛ لذا قرر أن يأتي بوالدته وأخيه عبد الله من منطقة القصيم؛ وخيرًا فعل؛ ليلتئم شمل الأسرة من جديد.، قال – رحمه الله-:

«بعد عام ونصف وبعد أن استقررت في المسيجيد، طلبت الوالدة وأخي عبد الله الحضور من عنيزة إلى المدينة المنورة بالسيارة، وكان عمر أخي ثماني سنوات، وعندما بلغني خبر وصولهما إلى المدينة المنورة من الأخ علي الفريح الذي استضافهما – جزاه الله خيرًا – استعرت جملاً من الصديق محمد الأحمدي وسريت عليه وحيدًا آخر الليل لإحضارهما إلى المسيجيد، وفي الطريق نزلت أمشي إلى جانب الجمل وقد أخذته الريبةُ من خيالي؛ فحاول الهرب، وبفضل الله تداركت الأمر وأمسكت خطامه، وهكذا أنقذني الله من هلاك محقق، وهذا من لطف الله وعنايته؛ فلو هرب الجمل لأكلتني الذئاب».